ماذا يحدث في شرق السودان؟

ماذا يحدث في شرق
ماذا يحدث في شرق السودان؟
إن الأزمة التي يشهدها شرق السودان منذ عامين تنذر بمخاطر جسيمة ولاسيما في سياق حالة الهشاشة وتحديات الانتقال المتعثر في مرحلة ما بعد عمر البشير. فهل نشهد تكرار سيناريو دارفور في الشرق؟ وربما يطرح البعض إمكانيات تكرار السيناريو الكارثي الذي انتهي بانفصال الجنوب. يبدو أن أصل الحكاية هي السياسة وتوظيف القبيلة لخدمة مصالح فئوية ضيقة لبعض مكونات النخبة الحاكمة في الخرطوم. ويبدو كذلك أن الجميع يقرأ من نفس الكتاب المرجعي الواحد، وهو ما يفسر لنا سر تكرار أزمات السودان المركبة التي يختلط فيها العرق والدين وتسلط المركز على حساب المناطق المهمشة والأطراف، في نفس الوقت الذي تتدافع فيه قوى إقليمية ودولية لممارسة الدور واكتساب النفوذ.ومن المعروف تاريخياً أن الشعوب البدوية القديمة في شمال شرق إفريقيا، التي عاشت في ظل الأنظمة الحضرية لمصر وكوش وأكسوم بالإضافة إلى العالمين اليوناني -الروماني والعربي، تم إهمالها عموماً وذلك مقابل التركيز على النموذج التاريخي للشعوب "البربرية" في شمال الصحراء الكبرى. من وجهة النظر هذه، نجد اهتماماً محدوداً بدراسة سكان الشرق، بحسبانهم مجموعة غير مستقرة من البدو الرحل. ومع ذلك سيطر الرعاة الرحل من أسلاف البجا في شرق السودان على الصحاري لآلاف السنين. وعلى الرغم من اعتبارها عموماً مجموعة من القبائل المنقسمة سياسياً وتشترك في اللغة والاقتصاد الرعوي فقط، فقد أنشأ مجتمع البجا القديم ونخبه المسيطرة ترتيبات سياسية معقدة في فضائهم العام. وطبقاً للمصادر المصرية واليونانية والقبطية والعربية، يتضح أن البدو شكلوا "دولة بدوية" كونفدرالية كبيرة خلال العصور القديمة المتأخرة وأوائل العصور الوسطى. فهل يؤدى الحراك الحالي في شرق السودان بمكوناته المتعددة واستقطاباته الواضحة بين طرفي الحكومة الانتقالية إلى إحياء تقاليد سلطة عموم البجا؟طبيعة شرق السودان المنقسميبلغ عدد سكان شرق السودان ما يقرب من ستة ملايين نسمة، نصفهم على الأقل من قبائل البجا، وهى جماعات رعوية بالأساس من الشعوب غير العربية. تشمل البجا قبيلة الهدندوة ( أكبر قبيلة ويعيش بعضهم في إريتريا)؛ والأمرار، الذين يقيمون في ولاية البحر الأحمر؛ والبني عامر، الذين يقيمون في كل من السودان وإريتريا. أما البشارية فهي موجودة في كل من السودان ومصر. يتحدث أبناء الشرق لغة واحدة - أصلها كوشي- ويجمعهم اقتصاد رعوي واحد وذلك باستثناء بني عامر، الذين يتحدثون لغة التقري، وهي لغة سامية، وغالباً ما يُعتبرون مجموعة عرقية وافدة. كما تقيم في الشرق عدة قبائل عربية مثل قبيلة الشكرية، الغالبة في القضارف والشايقية والجعليين- وهي قبائل نيلية- والرشايدة وهم بدو رحل هاجروا من شبه الجزيرة العربية في منتصف القرن التاسع عشر ويعيشون في أطراف كسلا وعلى طول الحدود الارترية. أضف إلى ذلك، أن ما يصل إلى 40% من سكان القضارف يرتبطون بحركة الهجرة الوافدة من غرب ووسط إفريقيا مثل جماعاتالهوسا والزرما. كما يعيش العديد من أبناء دارفور أيضاً في الشرق، خاصة في بورتسودان وكسلا، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الحلفاويين النوبة، الذين تم توطينهم في خشم القربة أو حلفا الجديدة غرب كسلا.وعلى الرغم من مستويات الفقر المرتفعة، يعد الشرق من أكثر مناطق السودان ثراءً، حيث تعتبر بورتسودان بوابة لمعظم التجارة الخارجية (بما في ذلك النفط) وتحتوي على عدد من المشاريع الزراعية المروية واسعة النطاق. ومع ذلك، لم تستفد من عائدات التجارة والزراعة غالبية الرعاة ومزارعي الكفاف في المنطقة. وقد أدى الجفاف والمجاعة المتكرران،على مدى عقدين من الزمن، إلى تدمير سبل العيش في المناطق الريفية. كما أفضت مركزية السلطة في الخرطوم مع وجود شبه احتكار جمع وإعادة توزيع الإيرادات، إلى حرمان الشرق من الحصول على مخصصات معقولة للتعليم والصحة والخدمات الأخرى.ماذا يحدث في كسلا وبورتسودان؟تعود الاشتباكات العنيفة بين قبائل البجا وبني عامر في شرق السودان إلى عام 1986. بيد أنها تجددت بعد شهر واحد فقط من الإطاحة بالبشير، واستمرت في التصاعد منذ ذلك الحين. وكان لتعيين والي مدني لكسلا من قبيلة بني عامر أثر سيء، حيث هددت بعض مكونات البجا بالقتال من أجل تقرير المصير في ولايات شرق السودان على البحر الأحمر وكسلا والقضارف. وتبدو الصورة قاتمة، حيث يقوم ناظر البجا محمد الأمين ترك، وهو من الهدندوة، بقيادة أعمال الاحتجاجات وإغلاق شرق السودان من خلال العصيان المدني. وتبدو بورتسودان وكأنها تعيش أجواء قتال وحرب. ربما يكون النزاع أهلي بين البجا وبني عامر، ولكنه في الأصل مرتبط بوضع الهشاشة- ولاسيما في الأجهزة الأمنية- الذي تعاني منه الدولة السودانية التي تمر بمرحلة انتقال عسير.وباعتقادي أن النزاع في شرق السودان هو، في جانب منه، نزاع أهلي بين البجا من جهة والبني عامر والحباب من جهة أخرى، وفي جانب آخر يعبر عن أزمة سياسية تبعتها أزمات اقتصادية واجتماعية. وقد شهدت الفترة التي أعقبت سقوط نظام البشير أحداث عنف ;كثيرة في بورتسودان وكسلا وغيرها من المناطق بشرق السودان وراح ضحية لهذه الأحداث عدد كبير من المواطنين، وهذا يشمل مثلاً الأحداث القبلية التي وقعت بين مكوني البني عامر والنوبة الأهليين والتي راح ضحيتها عشرات المواطنين رغم عدم وجود إحصاء دقيق عن الأعداد ;الحقيقية.لاشك أن الحملة التي يقودها زعيم البجا محمد الأمين ترك لمعارضة مسار الشرق في اتفاق سلام جوبا تعبر عن استغلال الانقسامات القبلية لتحقيق المصالح السياسية لنظام البشير المخلوع. كما أن ارتباطات ناظر البجا ترك بحزب المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً غير خافية. علاوة على ذلك، فقد ترشح ترك نفسه عن حزب المؤتمر الوطني في انتخابات عام 2015.ثمة مخاوف من أن التوترات والنزاعات العنيفة في شرق السودان قد تتحول إلى "دارفور أخرى" ما لم يتم احتواء الموقف ومعالجة ; جذور هذه النزاعات. وعلى سبيل المثال، يؤدي السماح لقادة الإدارة الأهلية - مثل محمد الأمين ترك - باختيار حكام الولايات إلى الإضرار بالنسيج الاجتماعي ويفجر المزيد من العنف. وفي الواقع، فإن سيناريو دارفور في بورتسودان سيكون أكثر خطورة، حيث أن الشرق يتسم بموقعه الاستراتيجي وقربه من مركز الحكم.المتغير الخارجيالمثير للقلق، هو تدفق الأسلحة النارية على شرق السودان بمعدل غير مسبوق. إذ يبدو أن التوترات المتصاعدة أصبحت أكثر عنفاً، حيث إن القبائل تستخدم الرصاص الحى، على عكس المناوشات السابقة التي كانت في الغالب تستخدم العصى. ولاشك أن توظيف المتغير القبلي لتحقيق أهداف سياسية يزيد من تعقيد الأزمة. ثمة حالة من الفراغ ; الذي خلّفه غياب الشعور العام بالمصلحة المباشرة والشعور العام بالانتماء الوطني. وعليه فإن الحروب القبلية يغذيها غياب الأمل وتفشي الفقر وضعف مؤسسات الدولة.وعلى الرغم من اعترافنا بأن أزمة الشرق في السودان هي بالأساس صناعة محلية، فإن ثمة أيادٍ خارجية تحاول استغلالها لتعظيم مكاسبها في معركة التدافع الإقليمي والدولي على السودان. ونظراً لقربها من البحر الأحمر الجيوستراتيجي، يميل البعض إلى القول بأن أعمال العنف في بورتسودان توظفها وتشعل جذوتها أجهزة استخبارات وقوى أجنبية ضاغطة. ثمة مصالح لقوى إقليمية نتيجة التداخل العرقي والقبلي عبر الحدود في شرق السودان مع كل من إريتريا وإثيوبيا. لقد حاولت إثيوبيا استغلال التوتر الأمني في الاقليم لغزو بعض مناطق الفشقة الحدودية، بيد أن الجيش السوداني قام بردعها والتصدي لها.وختاماً،فإن النهج الأمثل لمواجهة أزمة الشرق واحتواء ثورة البجا هو تعلم الدرس والاستفادة من تجارب الماضي القريب في غرب وجنوب السودان. من المتعين معالجة الأسباب الجذرية، وإجراء البحوث حول أسباب العنف، فضلاً عن تطوير خطاب عام وحكومي جديد لمواجهة التأثيرات السلبية للقبلية وإثارة النزعات العنصرية الضيقة.