محمود صلاح يكتب: عن الولاة والعبيد
يُحكى أنّ فتى صغير في مقتبل العمر؛ كان والده حاكمًا لمصر في فترة شديدة الاضطراب، قرر أنّ يُدشن سباقًا للخيل، ثم اختار منافسًا له من الأقباط المستضعفين آنذاك، وما أنّ بدأ السباق وقع شجارُ بينهما فنقض الفتى على نظيره القبطي ضربًا مستقويًا بسلطان والده وسلطة القوية في الدولة، فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير البلاد وشكى له ما حدث، وعلى الفور قام الأمير باستدعاء الوالي ونجله، وأمر القبطي أن يقتص منه أمام الناس، ثم قال الأمير بأعلى صوته مقولته الشهيرة موبخًا الوالي: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ".
قصة دارت أحداثها بالفعل في ظل حكم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، ولكنها لم تحظى بتداول كبير بين كُتب التاريخ، والفتى الذي انقض على القبطي ضربًا هو ابن الصحابي الجليل عمرو بن العاص والي مصر في هذه الفترة، ورغم السلطة التي يتمتع بها عمرو إلا أنها لم تمنعه من المساءلة والاقتصاص من نجله لصالح القبطي، ولكن كل ما سبق لا يهمني بقدر ما يهمني أن مقولة بن الخطاب تم تداولها بشكلٍ كبير على خلاف الحدث، ورغم ذلك لا زال بني البشر لا يدركون معناها حتى الآن، وما زالوا مكبلين الأيدي مكممي الأفواه، وكأنهم صمٌ بكمٌ عمي رافعين الرايات البيضاء في وطنٍ لا يريدهم إلا كذلك، مع العلم أنهم لو أمنوا بقدراتهم واتقوا الله في أنفسهم لفُتحت عليهم بركاتٍ من السماء والأرض وتحرروا من الاستعباد الذي يسبحون فيه منذ أعوام.
كم نعاني الآن من كثرة المتهورين أمثال نجل عمرو بن العاص، وكم نتألم لكثرة المستضعفين أشباه الفتى القبطي، وكم نشتاق لأمثال عمر بن الخطاب.. غياب عمر جعل المجتمع يعود مرة ثانية إلى طبقتين، طبقة من أصحاب النفوذ والسلطة، وطبقة من العبيد المستضعفين الذين لا يملكون سوى الرضا بالواقع، فالجميع الآن يبحثون عن التأقلم لا التغيير، فالعبد يحاول بكل استطاعته أن يتعاش مع أجواء العبودية، والسيد لا يحرك ساكنًا فنفوذه تتكاثر وأمواله تتضاعف بفضل العبيد الذين يعملون في صمت باحثين عن التأقلم.
يحزنني أن أقول إنه رغم ارتداءك بدلة ورابطة عنق وحذاء لامع؛ أنت يا عزيزي أسير للعبودية، عبودية من نوع خاص ليس فيها ضرب بالسوط ولا تعذيب تحت أشعة الشمس، ولكن عبودية شبه مقننة وعلى مرئ ومسمع من الجميع، إن كنت صحافيا لامعًا في إحدى المؤسسات فلا بد أن تجد ابن الوالي متربعًا على عرش الإدارة، وإذا كنت مهندسًا في إحدى الشركات فهناك ابن الوالي يتحكم في مسار حياتك، وهكذا قس على كل المجالات، وهو تصرف طبيعي لا شك لأبناء الولاة لا يحسدون عليه لطالما أن العبيد ارتضوا، وأمثال عمر بن الخطاب اختفوا عن المشهد تمامًا.
إبان نجاح الثورة الفرنسية التي ردعت الظلم، كان البيان الأول للثورة يحتوي على مقولة: "يولد الرجل حرا ولا يجوز استعباده"، ولم تكن وقفت البطل أحمد عرابي في وجه الخديوي توفيق ومواجهته بقوله: "لقد ولدتنا أمهاتنا أحرارا.. ولن نستعبد بعد اليوم" مجرد كلمات، ولكنها تعبر عما يكمن في القلب، بالطبع الكثير من عبيد هذه الأيام ليسوا سُعداء بحياتهم التي فُرضت عليهم منذ عشرات السنين إما عن طريق الوراثة أو التلقين، ولكن كلهم لديهم القدرة على التغيير والخروج من عباءت الظلم ولكنهم ينتظرون سماع ناقوس الخطر الذي سيغير كل شيء يومًا ما.