تقلبات مستمرة: كيف يؤثر متحور "أوميكرون" على الاقتصاد العالمي؟
بعد مرور أكثر من عامين على ظهور فيروس كورونا، واستمرار معاناة الاقتصاد العالمي؛ ظهر متحور جديد للفيروس في جنوب إفريقيا في أواخر عام 2021، وأطلقت عليه منظمة الصحة العالمية اسم "أوميكرون"، متسببًا في ارتباك واضح لأسواق المال العالمية في الأشهر الأخيرة من عام 2021. ويتسم المتحور الحالي عن غيره من المتحورات السابقة بأن أعراضه ليست بالخطيرة، لكن به الكثير من الطفرات تجعله سريع الانتشار. وعلى هذا النحو، شهد الأسبوع الأول من عام 2022 الارتفاع الأكبر في أعداد الإصابات بكورونا في العالم منذ بداية الجائحة، مسجلة نحو 2 مليون حالة يوميًا. واستمرت الإصابات في التزايد إلى أن سجلت حوالي 3 ملايين حالة يوميًا، وهو رقم قياسي منذ تفشي الوباء.
وحتى الآن، سجلت منظمة الصحة العالمية ظهور نحو 5 متحورات من فيروس كورونا، وربما لن يكون "أوميكرون" آخرها؛ حيث اكتشف باحثون فرنسيون في مطلع يناير 2022 متحورًا جديدًا في مدينة مرسيليا بفرنسا أُطلق عليه اسم (IHU)، وهو لشخص عاد مؤخرًا من رحلته إلى الكاميرون، وتشير النتائج الأولية إلى أن السلالة الجديدة توجد بها 46 طفرة، مقارنة بنحو 37 طفرة موجودة في "أوميكرون". ومن هذا المنطلق، يناقش هذا التحليل كيفية تأثير متحور "أوميكرون" من فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي.
تباطؤ عالمي:
مع بداية ظهور أي متحور جديد، تتجه الحكومات العالمية لإعادة فرض قيود السفر والانتقال، وهو ما يتكرر معه السلوك الهبوطي ذاته بالنسبة للأسواق المالية العالمية، مع وجود تأثيرات متباينة من سوق لآخر. ولذا، يبدو ظاهريًا أن المتحور "أوميكرون" سيضر مجددًا الاقتصاد العالمي، حيث ظهر في وقت بدأ فيه الاقتصاد العالمي يتعافى تدريجيًا من آثار شتى خلقتها أو زادت من حدتها جائحة كورونا، وأبرزها اختناق سلاسل الإمداد والتوريد، وتفاقم مشكلة نقص العمالة، وتزايد احتمالات ارتفاع التضخم، وتزايد حدة أزمة الطاقة، وارتفاع أسعار الغذاء والأسمدة عالميًا، فضلًا عن تفاقم أزمة الديون لدى الدول والشركات العالمية.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن التداعيات الاقتصادية لانتشار متحور "أوميكرون" أكثر اعتدالًا مقارنة بالموجات السابقة للجائحة، حيث تكيَّفت الأنشطة الاقتصادية والتجارية مع القيود وعمليات الإغلاق، في الوقت الذي استبعدت فيه معظم الحكومات القيام بإغلاق كامل لاقتصاداتها مثلما حدث في بداية الجائحة، وإن كان من الصعب أن تتلاشى تأثيرات متحور "أوميكرون" تمامًا على الاقتصاد العالمي، ويتضح ذلك من خلال عرض التأثيرات التالية:
1- تباطؤ معدل نمو الاقتصاد العالمي: سيظهر أثر متحور "أوميكرون" بوضوح على النشاط الاقتصادي العالمي في الربع الأول من عام 2022، حيث إنه من المرجح تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي السنوي ليصل إلى 2% في الربع الأول من العام الجاري، وهو ما يقل بنسبة 2.5% عن التوقعات السابقة، لكن في المجمل، من المرجح أن ينخفض نمو الاقتصاد العالمي لعام 2022 إلى 4.5%، ومن نحو 4.9% وفق توقعات سابقة لصندوق النقد الدولي الصادرة في أكتوبر الماضي. ويأتي ذلك بسبب زيادة عدد حالات الإصابة بسلالة "أوميكرون"، وتقليص تدابير الدعم المالي، واستمرار اختناقات سلاسل الإمداد العالمية.
2- ارتفاع البطالة: وفقًا لتوقعات منظمة العمل الدولية لاتجاهات البطالة العالمية، فإن نحو 207 ملايين شخص سيكونون عاطلين في عام 2022، وستنخفض أعداد الوظائف بحوالي 52 مليون وظيفة مقارنة بعام 2021؛ وذلك نتيجة لانتشار المتحورات الجديدة لفيروس كورونا، واستمرار تسريح عدد كبير من العمالة في قطاعات الترفيه وتجارة التجزئة.
3- تراجع موجة التضخم مع رفع الفائدة: شهدت معظم دول العالم ارتفاعًا في معدلات التضخم؛ نتيجة لسياسات التحفيز المالي للدول الكبرى، وتزامنًا مع اضطراب سلاسل الإمداد، وارتفاع أسعار السلع الغذائية والكهرباء والغاز. وبدوره، ارتفع معدل التضخم في الولايات المتحدة الأمريكية بمعدل 7% في ديسمبر 2021، وهو الأعلى منذ 4 عقود، كما ارتفع التضخم في منطقة اليورو بنسبة 5% في ديسمبر الماضي، ليصل إلى أعلى مستوياته منذ 25 عامًا. ويأتي ذلك بالرغم من أن البنوك المركزية الكبرى، سواء الأمريكية أو الأوروبية، تستهدف تحقيق معدل التضخم في نطاق 2%.
ولمواجهة الضغوط التضخمية غير المسبوقة، اتخذت ثلاثة من البنوك المركزية الأكثر نفوذًا في العالم خطوات حاسمة لتجاوز حالة عدم اليقين الاقتصادي، حيث رفع البنك المركزي البريطاني أسعار الفائدة بشكل غير متوقع لأول مرة منذ أكثر من 3 سنوات كوسيلة لكبح التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوى في 10 سنوات. كما سيتوقف البنك المركزي الأوروبي عن الشراء بموجب برنامج شراء السندات في مارس 2022. بينما توقع بنك الاحتياطي الفيدرالي 3 زيادات في أسعار الفائدة في العام الجاري من أجل ضبط المعروض النقدي لمواجهة التضخم. لذا يُتوقع أن تتباطأ معدلات التضخم في الولايات المتحدة خلال الربع الثاني من العام الجاري، وأن تنخفض في منطقة اليورو لتصل في المتوسط إلى 2.6% خلال نهاية هذا العام.
4- دورة صعودية لأسعار الطاقة: يفترض تحالف "أوبك +" أن تأثير متحور "أوميكرون" سيكون محدودًا ومؤقتًا على الطلب العالمي للنفط، لذا قرر التحالف الإبقاء على سياسته الإنتاجية التي تقضي بزيادة 400 ألف برميل يوميًا بداية من شهر فبراير المقبل. ومن المتوقع أن يصل استهلاك الخام إلى مستوياته ما قبل الجائحة في غضون العام الجاري، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على مستوى الأسعار، وتخطى خام برنت مستوى 87 دولارًا للبرميل في يناير 2022. بل من المرجح استمرار زخم أسعار الخام لتصل إلى 100 دولار للبرميل في الربع الثالث أو الأخير من العام الجاري، وفق توقعات غالبية المؤسسات الدولية.
أما بالنسبة للغاز الطبيعي والغاز المُسال، فمن المرجح أن تظل أسعارهما أعلى من متوسط الخمس سنوات الماضية، حيث ترتبط معظم عقود استيراد الغاز الروسي بسعر النفط، ويتواكب ذلك مع نمو الطلب عليهما في كل من أوروبا بسبب عوامل مناخية وبيئية، بالإضافة إلى الصين في ضوء الاتجاه إلى تقليل معدلات انبعاثات الكربون عن طريق استبدال جزئي للفحم المُستخدم في توليد الكهرباء بالغاز، وانخفاض واردات الفحم من أستراليا لأسباب سياسية، ومن إندونيسيا أيضًا بسبب سياسة الأخيرة لسد عجز الطاقة.
5- تباطؤ قطاع السفر العالمي: تسبب "أوميكرون" في إلغاء أكثر من 5700 رحلة جوية حول العالم خلال عطلة عيد الميلاد في العام الجاري، فيما تم تأجيل آلاف الرحلات الأخرى، حسب موقع "فلايت أوير" المتخصص في شؤون الطيران والسفر. ومن المرجح أن تؤدي القيود الجديدة المفروضة على السفر إلى زعزعة ثقة المستهلكين والشركات، وهو ما قد يحد من النشاط الاقتصادي في العديد من دول العالم.
6- ارتباك القطاع الصناعي: في حين بدأ الإنتاج الصناعي العالمي في مرحلة التعافي خلال الربع الأول من عام 2021، سيطرت حالة من عدم اليقين نتيجة تطورات الجائحة وظهور متحورات جديدة ساهمت في تراجع معدلات نمو الإنتاج الصناعي في أبرز الاقتصادات الكبرى خلال نهاية الربع الرابع من العام الماضي. ويتوقع أن يتأثر الإنتاج الصناعي سلبًا خلال الربع الأول من عام 2022، خاصة مع تشديد القيود لمنع تفشي الإصابات بفيروس كورونا ومتحوراته، ونقص العمالة والطاقة، واضطراب سلاسل الإمداد.
7- ضغوط اللوجستيات: يواجه قطاع النقل العالمي عامًا آخر من الاضطرابات في سلاسل الإمداد، التي تمتد من البحارة الذين يرفضون العودة على متن السفن، إلى سائقي الشاحنات ممن يفوق قلقهم من إغلاق الحدود تأثير إغراء زيادة الأجور. ومع تزايد الإصابات بسلالة "أوميكرون" وتشديد الحكومات القيود، لا تستطيع شركات الخدمات اللوجستية في جميع أنحاء العالم، بدءًا من المؤسسات العالمية العملاقة وحتى الشركات الصغيرة، العثور على عدد كاف من الموظفين، حيث أصبح حوالي خُمس الوظائف المهنية لقيادة الشاحنات شاغرة، على الرغم من أن العديد من أرباب العمل يعرضون أجورًا أعلى، وذلك وفقًا للاتحاد الدولي للنقل البري.
8- مشاكل سلاسل التوريد: يعد انتشار متحور "أوميكرون" من أهم العوامل التي أدت إلى تعميق الاضطراب والارتباك الكبير في سلاسل الإمداد العالمية مع نقص العمالة؛ نتيجة الوضع الصحي العالمي غير المستقر، جنبًا إلى جنب مع نقص المواد الخام والسلع الوسيطة. وفي تلك الأثناء، شهدت الموانئ المحورية العالمية، خاصة في الصين والولايات المتحدة وأوروبا، تكدسات فيها، مما نجم عنها زيادة في نوالين الشحن لمستويات غير مسبوقة. ويُتوقع استمرار تفاقم مشكلة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية حتى نهاية عام 2022.
ولعل أهم ما يُفاقم مشاكل سلاسل الإمداد العالمية هو تبني السلطات الصينية سياسة "صفر كورونا" التي تشتمل على قيود مشددة للتنقل بين المقاطعات، وفرض عمليات إغلاق محددة، وحجر صحي مطوّل، حيث يمكن في ظل هذه الاستراتيجية لحالة إصابة واحدة بكوفيد-19 أن تقود إلى فرض سريع للقيود؛ الأمر الذي يُتوقع أن يسفر عنه تدهور المشكلات ذات الصلة بالإنتاج والمبيعات، خاصة في ظل تفاقم العجز في العمالة. لذا تقف سياسة "صفر كورونا" في طريق التعافي الكامل لصناعة الشحن وإطالة أمد الأزمة التي تُعطِّل الموانئ وتؤدي إلى تفريغ الأرفف في جميع أنحاء العالم. وهنا، يُتوقع أن تستمر مشكلة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية في الإضرار بصناعات مختلفة، ومن بينها التعدين والغذاء والأسمدة والطاقة وصناعة السيارات، وبالتبعية سوف تؤثر على أسواق التجزئة في العالم. وسيعتمد حل مشكلة تعطل سلاسل الإمداد على الجهود الدولية لتلقيح مزيد من سكان العالم، وتخفيف القيود المفروضة على السفر أو الانتقال.
دور اللقاحات:
لا يمكن الحديث عن تعافي الاقتصاد العالمي، دون تسليط الضوء على الجهود الدولية لتلقيح سكان العالم ضد فيروس كورونا. ولعل التحدي الأكبر بالنسبة للعالم حاليًا يتمثل في تضييق الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية في الحصول على لقاحات كورونا، واللازمة لدعم نمو الأنشطة الاقتصادية. وحتى الآن لم يبذل المجتمع الدولي الجهد الكافي للوفاء بتحقيق التوزيع العادل للقاحات، فعلى الرغم من أن العالم أنتج حوالي 12 مليار جرعة لقاح ضد كورونا، فإن 95% من البالغين في الدول الأفقر عالميًا مازالوا محرومين من اللقاحات، التي تستحوذ عليها الدول الأغنى والتي اشترت بالفعل حوالي 90% من اللقاحات على مستوى العالم. في حين أن عدد من حصلوا على اللقاحات في إفريقيا، على سبيل المثال، لا يتجاوز نسبة 7%.
ختامًا، يمكن القول إن انتشار متحور "أوميكرون" عالميًا سيزيد من حالة عدم اليقين، وتقلبات الأسواق العالمية، مع انخفاض معدلات النمو والتشغيل والإنتاج الصناعي، وزيادة في تفاوت الدخول والثروات لصالح الدول الأغنى، وذلك كله مصحوب بتضخم محدود ومؤقت في الدول المتقدمة، ولكنه سيكون أخطر في الدول النامية والفقيرة، لا سيما تلك التي تفتقد منظومة شاملة للضمان الاجتماعي، حيث ستُضار بشكل رئيسي بسبب ارتباك سلاسل الإمداد وارتفاع أسعار الغذاء، لاعتمادها على الاستيراد من الخارج، هذا في وقت تعاني حوالي 60% منها ضائقة ديون أو في خطر أزمة ديون.
*مركز المستقبل للدراسات المتقدمة