التجربة الأمريكية: هل يقدم "التبرع الرقمي" حلًا لمشكلات العطاء الخيري؟
يعد العطاء الخيري عملًا اجتماعيًا يولد الشعور بالانتماء وبناء علاقة إنسانية مع الآخرين، وهو يختلف من مجتمع لآخر حسب قيمه وثقافته وموارده، وبينما كان العطاء يقتصر فقط على التبرع بالمال والوقت لدعم الآخرين، فإن ثورة التكنولوجيا والاتصالات في العالم منحت بعدًا جديدًا للعطاء. فبات الأفراد يتبرعون ببياناتهم الرقمية، مثل الصور الفوتوغرافية، والتسجيلات الصوتية، والبيانات الطبية، وبيانات الحمض النووي، إضافة إلى استخدام أدوات تكنولوجية حديثة، مثل عملة البيتكوين مؤخرًا أيضًا للتبرع لصالح قضايا وأهداف خيرية.
مثل هذه الأشكال للتبرعات الرقمية تناقشها لوسي بيرنهولز في كتابها المعنون "كيف نقوم بالعطاء الآن"، في سياق طرحها إشكاليات العطاء الخيري في المجتمع الأمريكي، مشيرة إلى أن استخدام التكنولوجيا في التبرع يجعله أكثر سهولة في طلب المال أو الحصول عليه وإن كان يستلزم بناء آليات تنظيمية ورقابية.
تؤكد الكاتبة أنه لأكثر من قرن، ركز القانون الأمريكي ووسائل الإعلام على التبرعات المالية الصادرة من المنظمات غير الربحية، باعتبارها جوهر العطاء، على الرغم من مشاركة الأطياف الشعبية كافة في تقديم ما هو أكثر بكثير من التبرع المالي، الذي بلغ 449 مليار دولار في عام 2020، وفقًا لتقرير Giving USA السنوي الذي يتتبع التبرعات المعفاة من الضرائب من قبل المنظمات غير الربحية منذ عام 1956.
لكن بيرنهولز تنتقد تناسي القوانين الحالية والإعلام لفكرة اعتماد المجتمع الأمريكي على التقنيات الرقمية مثل "الهواتف المحمولة وخدمات الإنترنت الحديثة"، فهذه التقنيات تُسهِّل عملية دفع التبرعات من قبل الأطياف كافة، وبالتالي تؤدي إلى تنامي حجم التبرعات الخيرية. ومن ثم، تستهدف الكاتبة في تحليلها توسيع مدارك الفهم لكيفية العطاء الخيري، حتى يتمكن المجتمع من اتخاذ قرارات أكثر قوة بشأن دفع التبرعات، مع تعديل القوانين الحالية وصياغة مستقبل أكثر عدالة وإنصافًا.
أشكال التبرعات الخيرية:
أشارت الكاتبة لتنوع التبرعات الخيرية التي تتم داخل المجتمع الأمريكي وتقسيمها وفقًا لأهداف سياسية أو عمل خيري أو تسوق هادف وادخار واستثمار، وهذه الفئات مميزة في نظر القانون، كما تتم مراقبتها من قبل هيئات تنظيمية مختلفة، وهي كالتالي:
• العطاء السياسي: يحدث من قبل بعض الأحزاب السياسية أو لصالحها تحت إشراف لجنة الانتخابات الفيدرالية. وتكون تلك الأموال مخصصة لدعم توجهات تلك الأحزاب خلال فترة الانتخابات. وأشارت الكاتبة إلى أنه في عام 2016، تم إنفاق أكثر من 6،8 مليار دولار على الانتخابات الفيدرالية، وفي عام 2012 وصل هذا الرقم لما يقرب من 14 مليار دولار. وأكدت الكاتبة أنه من الصعب رسم خطوط فاصلة بين النشاط السياسي والخيري في ظل قوانين غير مثالية.
• الاستثمار المؤثر: في العقد الماضي، تم توجيه الاهتمام نحو استخدام استثمارات معينة في المحفظة الاستثمارية وتحويلها لصالح مشاريع أكثر نشاطًا في مجالات اجتماعية وبيئية، لخلق فرص استثمارية تهدف لتحسين الظروف في هذين المجالين. وأشارت الكاتبة لتقرير شبكة Global Impact Investing Network - التي تهتم بمتابعة تلك المشروعات الخيرية - والتي أكدت أن حجم السوق العالمي للمشروعات الخيرية الهادفة لتحقيق تأثير اجتماعي وبيئي إيجابي قد وصل إلى 714 مليار دولار.
• التسوق الهادف: أفادت الكاتبة بأن هذا النوع من التبرع هو عبارة عن شراء منتجات لها عائد اجتماعي وبيئي إيجابي، وأنه أصبح شائعًا وفي نمو مستمر، لكنها انتقدت عدم توافر بيانات متسقة وموثوقة ومتوفرة بقدرٍ كاف بشأن هذا النوع من السوق، وتقاعس الشركات المسؤولة عن تلك المنتجات عن تقديم تقارير معتمدة ومدققة لها.
• التبرعات مقتطعة الضرائب: أشارت الكاتبة إلى لجوء بعض المواطنين لتقديم التبرعات الخيرية لتستقطع من رواتبهم؛ وذلك بهدف تقليل فواتيرهم الضريبية لصالح مصلحة الضرائب الأمريكية، وهو ما يؤكد توقعات الاقتصاديين حول ارتباط سلوك العطاء بالحوافز الضريبية في المجتمع الأمريكي. ومن المنطق التفكير في عمل إصلاح ضريبي لتغيير ثقافة التبرع من قبل الجموع والمرتبطة بمعدلات الضرائب.
• التبرع من خلال صناديق بنكية: أفادت الكاتبة أنه منذ أوائل التسعينيات، كانت صناديق المتبرعين الوسيلة الأكثر انتشارًا لتقديم التبرعات، وهي حسابات بنكية ابتكرتها مؤسسات مجتمعية، وتأتي جاذبية تلك الصناديق من بساطتها وتوافرها. لكن أكدت أيضًا على أن هذه الصناديق هي سلاح ذو حدين؛ ففي الوقت الذي تقوم فيه بحماية خصوصية المتبرعين، إلا إنها تفتقد الشفافية في فهم مسار تلك التبرعات.
العطاء والبيانات الرقمية:
تناولت الكاتبة الأهمية التي تتمتع بها البيانات الرقمية للأفراد وذلك مع كل نقرة على الهاتف الخلوي أو استخدام البطاقات الإلكترونية وغيرها، مُشيرة إلى تحقيق الشركات أرباحًا هائلة باستخدام تلك البيانات. كما أشارت إلى إمكانية استخدام تلك البيانات الرقمية في دعم فكرة العطاء داخل المجتمع الأمريكي مثلما تمت الاستفادة من الوقت والمال من قبل. خاصة أن الأنظمة الرقمية مثل الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المتصلة بالشبكة تجعل من السهل طلب المال وتقديمه. كما أكدت سهولة تتبع مصير تلك التبرعات التي يقوم بها الأفراد عبر الإنترنت وإتاحة الفرصة للتمييز بين الجهات التي يتم التبرع لها.
وأكدت بيرنهولز أن الجميع بدأ في جمع واستخدام البيانات الرقمية عن عمد - من الصور إلى الحمض النووي - لإحداث تغيير في العالم. لذا تقترح الكاتبة التفكير بجدية في إمكانية التبرع بالبيانات لاستخدامها كمورد خيري، خاصة أنه سيشجع المزيد من الأشخاص على الاهتمام بالوسائل التي تأخذ بها الشركات والحكومات بياناتهم لتقوم باستخدامها.
ودعت إلى النظر في التكاليف التي تتحملها المجتمعات جراء استخدام البيانات الرقمية للأفراد وتكلفة تمرير سلطة التحكم فيها للشركات والجهات المختلفة. وأكدت ضرورة استغلال هذه الفرصة للتأكد من إعادة صياغة قواعد استخدام البيانات الرقمية في الأعمال الخيرية والتأكد من كونها منصفة وعادلة، وأنها تقوم بحماية حقوق المتبرعين.
وأثارت الكاتبة الانتباه إلى أنه بالرغم من صعوبة اقتناع العديد من المتبرعين لتقديم أموالهم وأوقاتهم لصالح الأعمال الخيرية، إلا أن الأصعب عليهم هو إقناعهم بتبرعهم ببياناتهم الرقمية لصالح تلك الأعمال، وهو ما يستلزم ضرورة رفع الوعي لديهم للتمييز بين التبرع ببياناتهم الرقمية لقضية ما أو مجرد أخذها منهم لخدمة أهداف شركات ربحية.
إشكاليات متعددة:
طرحت الكاتبة عِدة إشكاليات أساسية للتبرعات الخيرية في الولايات المتحدة من أبرزها ما يلي:
• التدخل بين التبرعات والعمل السياسي: أشارت الكاتبة إلى أن التبرعات الخيرية قد تكون لها آثار سياسية خاصة أنها تقع في جذور النظرية السياسية وعمل الأحزاب كما تخضع لسلطة الحكومات في الأنظمة الديمقراطية. وقد يبدو الأمر مبالغًا فيه، لكنه كذلك، فالأعمال الخيرية قد تكون مصدرًا من مصادر القوة السياسية. وأفادت الكاتبة بأنه في الوقت الراهن، حيث تغيب العدالة الاجتماعية في المجتمع الأمريكي، فإن المساهمات المالية الكبيرة لصالح الأعمال الخيرية قد تتحول بمرور الوقت لتكون بديلًا عن الدعم الحكومي داخل المجتمع.
وأكدت الكاتبة أن التبرعات التي يقدمها الأثرياء تُعد وسيلة لإرساء قوانينهم وسلطتهم على مجالات عِدة مثل التعليم، والرعاية الصحية، والفن، والثقافة، والبحث العلمي، والبيئة، ونظام العدالة، مشيرة إلى أن هذه القوة الخيرية بطبيعتها غير ديمقراطية لأنها تضع حفنة من المانحين في مناصب التأثير على الأنظمة التي تهدف بالأساس إلى خدمة جميع الناس – بل ويحكمونها.
إلا أن بيرنهولز عادت وأكدت أن قوة العطاءات الخيرية من قِبَل جموع الناس تكمن في ميزة الكثرة والعدد، مُشيرة إلى أن التبرع بالمال أو بالوقت أو بالبيانات الرقمية قد يكون مؤثرًا للغاية عندما يتم من قبل مجموعات وليس أفرادًا، فهم بذلك يرسلون إشارات قوية حول مستقبل العالم الذي يطمحون إليه، وأن قوة العطاءات الخيرية مهمة للمجتمع، حيث تبني من خلاله أنظمة تهدف لخدمة وحماية وتمكين الأطياف كافة، سواء بشكلٍ فردي أو جماعي.
• تحميل العطاء أعباء الخدمات العامة: سلطت الكاتبة الضوء على أزمة نقص تمويل البنية التحتية التي تعانيها الولايات المتحدة، من قبل الضرائب المحصلة، وهو ما دفع المشاركة المجتمعية للتدخل من خلال تقديم التبرعات الخيرية. مع ذلك، انتقدت الكاتبة هذا التداخل الذي يضع عبئًا على تلك الأعمال الخيرية، خاصة أنه غير مناسب لأهدافها الديمقراطية، وأكدت أنه لا يمكن للعمل الخيري أن يكون بديلًا للدعم المادي للحكومات.
• تسليع العطاء ليس لأهداف ديمقراطية: انتشر الحديث عن إضفاء الطابع الديمقراطي على العطاء، لكن بيرنهولز تقول إن ما يحدث حقًا هو عملية تسليع، مثلما حدث في طرح شركة آبل أجهزة آيفون ذات اللون الأحمر التي تم إصدارها لأهداف خيرية، في إطار توجيه جزء من ريع مبيعات الهاتف لصندوق دولي خاص لمكافحة مرض الإيدز، كما طرحت شركات أخرى قمصانًا ذات علامات تجارية، وبطاقات ائتمان لأغراض خيرية. وترى الكاتبة أن الهدف هو بيع المنتجات لعدد أكبر من الناس، وأكدت أنه قد تظل هذه المنتجات مُفيدة، ويتم تسويقها بالتأكيد لدى المزيد من الناس، لكنها وسائل وليست غايات، وسلعًا وليست ديمقراطية.
• العطاء الجماعي والالتزام الاجتماعي: تناولت الكاتبة فكرة أن المزيد من العطاء ليس دائمًا أفضل، منتقدة ما يحدث داخل المجتمع الأمريكي من الثناء على الأعمال الفردية من دون النظر للالتزام المجتمعي من قبل عامة الشعب تجاه الأعمال الخيرية المختلفة. فالقواعد المتعلقة بالعطاء الخيري مكتوبة حاليًا بطرق لا تفيد إلا الأثرياء، على الرغم من أن الغالبية العظمى من العطاء تأتي من الأشخاص العاديين. واستشهدت الكاتبة على ذلك بما حدث خلال الأشهر الستة الأولى من جائحة كورونا في عام 2020، والتي شهدت اندفاعًا من المواطنين للانضمام لشبكات المساعدات الخيرية.
وأكدت بيرنهولز بنهاية المطاف أنه لممارسة العطاء الخيري بشكلٍ حقيقي يحتاج المجتمع أن يتخلى عن الادعاء بوجود حياد سياسي، والتخلي كذلك عن الادعاء بانتشار المساواة، واختفاء العنصرية في التعامل، إذ انتقدت القوانين الخاصة بالتبرعات الخيرية والتي ركزت بالأساس على التبرعات المالية فقط لصالح منظمات بعينها، حيث تعكس معظم القوانين والمؤسسات التي تم إنشاؤها (مثل المؤسسات أو المنظمات غير الربحية) في الولايات المتحدة التقاليد البيضاء ذات المركزية الأوروبية ووجهات النظر العالمية لمن كتبوها.
واختتمت الكاتبة حديثها بأن الخطاب التسويقي لإرساء الديمقراطية في أحسن الأحوال هو بالأساس خطاب مُضلل، كما أن محاولتها للبحث في هذا الموضوع يعود لرغبتها في مساعدة المانحين من مجتمع أصحاب البشرة البيضاء والمهيمنين بالأغلب على العمل الخيري لرؤية حقيقة القوانين والممارسات الحالية الضيقة والإقصائية والمبنية على أساس عنصري والتي تهدف لسرقة الثروات، وهو ما يستلزم تعديلها أو تغييرها.
المصدر:
Lucy Bernholz، How We Give Now "A Philanthropic Guide for the Rest of Us"، The MIT Press Cambridge، Massachusetts London، England، 2021.