أحمد عبداللاه يكتب.. "حديث الوحدة.. حين تحلم الدناصير"
يردد البعض مقولة مجردة عائمة تبرر ضبابية المواقف ويقدمونها وكأنها اختراع نادر: "لا وحدة بالقوة ولا انفصال بالقوة". والنتيجة البقاء في "المكان صفر"، أي استمرار واقع "الوحدة بالقوة "وعلى المتضرر الانتظار حتى يصبح الذئب نباتيًا.
ويقولون ايضًا: "الوحدة جميلة ولا تحملونها فشل البعض". وفي ذلك تلميح بأن "الوحدة الجميلة الحسناء التي تأسر الحالمين" يمكن أن تولد قيصريًا بجراحة جديدة لو تغير ذلك "البعض" ببعض آخر، أو حتى يمكن تفصيلها على مقاسات أي توليفة لسلطة انتقالية تنشأ بطريقة ما.
ما الذي غاب إذن عن المؤتمر الشعبي وتوفر عند جماعة الإخوان المسلمين؟ وما الذي كان ناقصًا عند هؤلاء واكتمل عند جماعة ولاية الفقيه؟ وهل السلطة الجديدة في صنعاء أكثر مدنية وديمقراطية من سابقيها؟ بالطبع لا شيء من ذلك فجميعهم اخوة يوسف، ولا يملكون خيارًا جديدًا ليوسف سوى: "الذئب" أو "غيابة الجبّ" أو "سجن زويرا".
أيها الإخوة الحكام القدامى والجدد والاخوة المحكومون على الدوام.. حين تحلم الديناصورات فإنها لا ترى سوى فريسة تليق بها. وهكذا الساسة الكبار لا يرون سوى الكرسي السحري. وكذلك الأحزاب التي استنفدت طاقتها بالصراعات لا ترى سوى السلطة التي تسعى إليها بوسائلها.
الوحدة ليست وصفة سماوية بل كانت اتفاق بشري بين أهل الأرض المنسية وسرعان ما انكشف للواهمين بأن الوحدة المتخيلة لا تجد في الواقع ما يشبهها سوى غزو أئمة اليمن للجنوب واجتياح ٩٤ وحرب ٢٠١٥.
كان البلَدان يتحاربان ثم يلتقي الزعماء كي يتفقوا حول مشروع الوحدة. وكانت تلك مفارقة سيكولوجية أكثر منها ظاهرة سياسية نادرة! لأنه في العادة حين يتحارب بلدان فانهما لا يخوضان حربًا من أجل أن يتوحدا مهما كانت عناوين تلك الحروب، وإنما لان هناك صراع محتدم وشقوق عميقة واختلافات جوهرية في الرؤى الاستراتيجية والقناعات وفي المنهج السياسي والايديولوجيا وتضارب في المصالح. وكل ذلك مدعاة لأن يذهب الطرفان لمعالجة عوامل التوتر اولًا قبل الحديث حتى عن علاقات طبيعية. ذلك هو المنطق.
ظلت الوحدة شعار وخطاب قومي، تتجسد فقط في الوثائق التي تصاغ بعد كل أزمة أو حرب بين الدولتين ولم تكن ضرورة تبرر التضحيات، أو حتى نهج موضوعي أو مشروع عقلاني متدرج، لأنه لو حصل ذلك لاكتشف الطرفان الأزمات والفروق الطبيعية بشكل مبكر وقرروا البحث عن سياقات أخرى للشراكة.
ذلك لم يحصل وما حصل هو ارتطام جسد صغير بآخر اكبر منه حين حزم القادة الجنوبيين حقائب السفر بعد أن تم طي علم الجنوب وشطْب دولته من السجلات الرسمية داخليا وخارجيا، واتجهوا في ليلة وضحاها إلى وظائف مؤقتة في "دولة الوحدة" التي ابتلعتها الدولة العميقة في صنعاء خلال الساعات الأولى. كانوا يطاردون حلمًا بعيد المنال بينما صنعاء كانت تخطط لإيواء جثامين الساسة الجنوبيين قبل إعلان موتهم السياسي ولم تتوقع حينها أن يواروا دولتهم الثرى ويأتوا إلى صنعاء بأياد خاوية.
نعم كان شعب الجنوب يحب الوحدة ويتوق إليها.. لكنها تلك الوحدة التي جسدها في خياله ووجدانه وعواطفه وليست التي وقع في حبائلها الحكام حين ارتجلوها دون مقدمات ودون شروط أو ضمانات، واعتقدوا أن الديمقراطية التي ستُنبتها امطار صنعاء الصيفية في أحواش المنازل وعلى ارصفة الطرقات هي الضامن. لم يدركوا أن الصعود إلى جبال الهضبة لا يعني شيء سوى السقوط منها.
الوحدة جميلة على الورق وفي المقاربات النظرية وفي كتابات الوحدويين والقوميين وفي الخطاب الرسمي وأحاديث الناس المجردة وفي العاطفة والخيال وفي قصائد الشعر، أو كما تصورها نصوص الحاكم المنتصر على شركائه وبعض النخب التي يجرجرها الحماس والاصطفاف اللاعقلاني. لكن الوحدة في الواقع مختلفة تمامًا. معقدة ومُرّة ومستحيلة.
أما الوحدة المقدسة التي "يستوجبها" الدين والايديولوجيات القومية، كما يفترض البعض، يمكن أن تحصل في سياقات مختلفة من خلال الشراكة الدائمة والحدود الآمنة المفتوحة والتكامل الاقتصادي والمشاريع العابرة للدولتين.. الخ. أي وحدة المصالح بمفاهيم حضارية كما تفعل كثير من شعوب الأرض.. فالدين والقومية لا يقولان اقتل أخاك كي تتوحد معه.